كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويجوز أن يكون قول اللّه تعالى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} عنى به البالغ، وسمّي يتيما لقرب عهده بالبلوغ، ولذلك قال: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ}.
والظاهر منه أنهم يؤتون أموالهم إيتاء لا بمعنى الإطعام والكسوة، ولكنه بمعنى تسليطه عليه، ونهى الولي عن إمساك ماله بعد البلوغ عنه، ولكن لم يشترط الرشد هاهنا، وشرط إيناس الرشد والابتلاء في قوله: {وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ}، فكان ذلك مطلقا وهذا مقيد.
وذكر الرازي في أحكام القرآن: أنه لما لم يقيّد الرشد في موضع، وقيّد في موضع، وجب استعمالهما والجمع بينهما فأقول: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وهو سفيه لم يؤنس منه الرشد، وجب دفع المال اليه، وإن كان دون ذلك لم يجب عملا بالآيتين، وهذا في غاية البعد، فإنه تعالى قال: {وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ}، وذلك يقتضي اعتياد إيناس الرشد عقيب بلوغ النكاح من غير تطاول المدة.
وقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ}، يقتضي مثل ذلك، فإن اسم اليتيم إنما يطلق على قبل البلوغ حقيقة، وعلى قرب العهد بالبلوغ مجازا، فإما أن يقال: إنه يتناول ابن خمس وعشرين سنة فصاعدا إلى مائة، وهو جهل عظيم.
والعجيب أن أبا حنيفة إنما أطلق الحجر، لأنه قال قد بلغ أشده وصار يصلح أن يكون جدا، فإذا صار يصلح أن يكون جدا، فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم، وباسم اليتم، وهل ذلك إلا في غاية البعد.
قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} الآية [3].
واختلفت أقاويل المفسرين في معناه: فروى الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة- رضي اللّه عنها- في قول اللّه تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} قالت: يا ابن أختي: هي اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.
قال عروة: قالت عائشة- رضي اللّه عنها-: وإن الناس استفتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل اللّه: {وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ}.. إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}.
قالت: والذي ذكر اللّه تعالى أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي فيها: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي}.
وقوله في الآية الأخرى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}، رغبة أحدكم عن يتيمته التي هي في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء، إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن، وهذا ما أورده البخاري في صحيحه، وفيه دلالة على أن اليتيمة يجوز تزويجها.
وروي عن سعيد بن جبير والضحاك والربيع غير هذا التأويل، وهو أن معنى الآية: «كما خفتم في حق اليتامى فخافوا في حق النساء الذي خفتم في اليتامى ألا تقسطوا فيهن».
وروي عن مجاهد: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا}، أي تحرجتم من أكل أموالهم، فتحرجوا من الزنا وانكحوا نكاحا طيبا مثنى وثلاث ورباع.
والمشكل أن عائشة رضي اللّه عنها قالت: نزلت هذه الآية في ذلك، وذلك لا يقال بالرأي وإنما يقال توقيفا، ولا يمكن أن يحمل على الجد، لأنه لا يجوز له نكاحها، فعلم أن المراد له ابن العم ومن هو أبعد منه من سائر الأولياء.
ويمكن أن يحمل على البالغة لأن عائشة رضي اللّه عنها قالت:
ثم إن الناس استفتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل اللّه تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ} إلى قوله: {فِي يَتامَى النِّساءِ}.
والصغار لا يسمين نساء.
فإن قيل: قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى} حقيقة في الصغيرة بدليل عليه السلام: «لا يتم بعد حلم»، واسم النساء يتناول الصغيرة في قوله: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ}، {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ}، {وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ}.
ويقال في الجواب عنه:
إن اسم النساء في قبيل الإناث، كاسم الرجال في قبيل الذكور، واسم الرجل لا يتناول الصغير، فاسم النساء والمرأة لا يتناول الصغيرة والصغائر، وفي الإناث التي وقع الاستشهاد بها، يمكن أن يكون اللفظ لغير الصغيرة، ولكن يثبت مثل ذلك الحكم في الصغيرة بدلالة الإجماع.
وقول القائل: اسم اليتيم لا يتناول ما بعد البلوغ، فهو مسلم من حيث الحقيقة، غير أنه يطلق مجازا، بدليل أنه ذكر النساء، ولا يمكن تعطيل لفظ النساء الذي هو حقيقة في البالغات.
فإن قيل: فالبالغة يجوز التزوج بها بدون مهر المثل برضاها، فأي معنى لذلك الجواب؟
يقال إن معناه أن يستضعفها الولي ويستولى على مالها، وهي لا تقدر على مقاومته، ولذلك قال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ}.
ولما ثبت أن المراد باليتيمة البالغة، ولم يكن في كتاب اللّه دلالة على جواز تزويج الصغيرة، لا جرم صار ابن شبرمة إلى أن تزويج الآباء للصغار لا يجوز، وهو مذهب الأصم، لأن نكاح الصغيرة يتخير بتفويت من غير تعجيل مصلحة، على ما قررناه في تصانيفنا في مسائل الخلاف، وإذا ثبت ذلك فلا يجوز ذلك تلقيا من القياس ولا توقيفا.
وقد قال قائلون: بل في كتاب اللّه ما يدل على جواز تزويج الصغيرة، فإن اللّه تعالى يقول:
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}.
فحكم بصحة طلاق الصغيرة التي لم تحض، والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح، وهذا لا دافع له إلا أن يقال:
النكاح في حق الصغيرة، إن لم يتصور، فالوطء الموجب للعدة متصور، وليس في القرآن ذكر الطلاق في حق الصغيرة، إنما فيه ذكر العدة، والعدة تجب بالوطء، والوطء متصور في النكاح الفاسد، وعلى حكم الشبهة في حق الأمة تزوجها مولاها وهي صغيرة فتوطأ.
والاعتماد على ما روي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم تزوج عائشة رضي اللّه عنها وهي بنت ست سنين، زوجها أبوها أبو بكر.
وربما لا يقولون: لا يحتج بما كان في حق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فإن نكاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا يفتقر إلى الولاء.
وعماد كلامهم أن تزويج الصغيرة يتخير بتفويت في مقابلة نجح موهوم، ولا يتحقق ذلك في حق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، إذ لا يتوقع فوات مصلحة الصغيرة من نكاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
وقد يقال في الجواب عن ذلك: إن المرأة ربما أرادت الدنيا بعد البلوغ، وأرادت التفرغ إلى نفسها ولم ترد زوجا فالتوقع قائم.
وليس في ذلك غبن لها فإنها أن كرهت الزواج أو لم ترض بالزواج كان حالها حال الزوجة التي كرهت زوجها فلها حق الخلع، ولها حق الاحتكام للحاكم في طلب الطلاق للحكم بما يراه في حدود الدين.
ويمكن أن يقال: إن نكاح الصغيرة ليس بعيدا عن المصلحة، ولذلك اطردت به العادة واستمرت عليه العامة، فإن المقصود منه الألفة، فإذا ألفيت المرأة صغيرة لم تمارس الرجال ولم تعرف الهوى، ترسخت المودة بينهما، فقد قيل في المثل:
ما الحب إلا للحبيب الأول

والشاعر يقول:
عرفت هواها قبل أن أعرف الهوى ** فصادف قلبا فارغا متمكنا

قوله تعالى: {مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} الآية [3]:
ظن قوم أن الواو تقتضي الجميع، فحل جميع هذا العدد الذي يخرج منه الاثنان والثلاث والأربع إلى تسع.
وقال جمهور العلماء: المراد به إباحة الثنتين إن شاء، والثلاث إن شاء، والأربع إن شاء، وأنه مخير في أن يجمع من هذه الأعداد ما شاء، فتقدير الكلام: تخيروا في هذه الأعداد.
فإن قيل: فلفظ التخيير قد عدم هاهنا، وإنما ذكر لفظ الجمع، ولم يكن كقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}.
قيل: ذلك لأن اللّه تعالى إنما أراد به بيان الأصلح لعباده، بالإضافة إلى أحوالهم، فإن أمكنه أن يعدل في الأربع نكح الأربع، وإلا نكح الثلاث، وإلا نكح المثنى فإن خاف ألا يعدل فواحدة، فتقديره:
ثلاث ورباع في حالة.
وهذا يرد عليه أن في أي وقت قدرتموه، فقد جاز له نكاح الأربع، فلا معنى لتقدير ذلك.
وقد قيل: الواو على حقيقتها ولكنه على وجه البدل، كأنه قال:
ثلاث بدلا من مثنى، ورباع بدلا من ثلاث، لا على الجمع بين الأعداد.
ومن قال هذا قال: لو قيل بأو لجاز أن لا يكون الثلاث لصاحب المثنى، ولا الرباع لصاحب الثلاث، فأفاد بذكر الواو إباحة الأربع لكل واحد ممن دخل في الخطاب، وأيضا فإن المثنى دخل في الثلاث، والثلاث دخل في الرباع، إذ لم يثبت أن كل واحد من الأعداد مراد مع الأعداد الأخر على وجه الجمع فيكون تسعة، وهذا كقوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا} إلى قوله: {قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ}.
والمعنى في أربعة أيام باليومين المذكورين بدءا، ثم قال: {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ}.
ولو أن ذلك كذلك، لصارت الأيام كلها ثمانية، وقد علم أن ذلك ليس كذلك.
لقوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}.
فذلك المثنى داخل في الثلاث. والثلاث في الرباع، فيكون الجميع أربعا، وهذا ما عليه جمهور العلماء.
ثم هذا العدد في الأحرار دون العبيد، فإن سياق الكلام يدل عليه، وهو قوله: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ}، والعبد لا يملك النكاح بنفسه، لتوقف نكاحه على إذن مولاه، ولأن الأصل امتناع النكاح في حق العبد، لمنافاة الرق الاستقلال بالملك، غير أن الشرع أباح له لمكان الحاجة، فكان الأصل الاقتصار على الواحد، غير أنه جعل مشطرا، والزيادة عليه تعنت على أصل المنع.
قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً} الآية [2].
فالمراد به العدل في القسم بينهن كما قال تعالى في آية أخرى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}.
والمراد به ميل القلب، والعدل الذي يمكنه فعله ويخاف ألا يفعل لإظهار الميل بالفعل، فيجب عليه الاقتصار على الواحدة إذا خاف إظهار الميل والجور ومجانية العدل.
ثم قال: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} الآية [3].
فدل ذلك على أن لا عدد في ملك اليمين، ولا وجوب القسم والعدل فيهن، فإنه تعالى قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً}.